الاكاديمية بين زمنين
أ.د.عبد الرزاق عبد الجليل العيسى
ثمة ظواهر جديدة طرأت على الحياة الأكاديمية والجامعات العراقية كما الحال في باقي دوائر الدولة العراقية في خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تتلخص برفع شعار يسمح للموظفين بالعمل بعد الدوام الرسمي بغية الحصول على مردود مالي يعين على سد رمق الحياة المعيشية وغلائها التي لا يمكن ردم هوتها من راتب الوظيفة الرسمية فقط، ومن هنا استتبع ذلك ظهور أمراض وظيفية تفشت واستفحلت بعد ذلك لتصبح داء عضالا في الجسد الاجتماعي والوظيفي معا كالاختلاس والتزوير والرشوة من الطلبة وبيعهم الأسئلة وعدم تطبيق العدالة في التعامل معهم، وأحيانا محاربتهم بأشكال شتى مثل عدم الإيفاء بالتزامات ضوابط التدريس في قاعة المحاضرة ، أو السماح عمدا أو تغاضيا للطلبة بالغش في القاعة الامتحانية أو بتسريب الأسئلة قبيل موعد الامتحان مقابل مبلغ تافه أو بسب ضغوط اجتماعية أو سياسية وأحيانا يصل الأمر لأسباب غير أخلاقية، ومن هذا الواقع المشوه دخل في خاطر التدريسي هاجس ترك الواجب وإلغاء المحاضرة وحتى ترك الدائرة الرسمية، ومن هذا الشكل المضطرب في الجسد الأكاديمي نسي معظمهم طبيعة الالتزامات والنشاطات داخل القسم العلمي بعده عضو الهيئة التدريسية فيه ، وبعضهم الآخر كان لا يرغب بالتواجد والحضور لأسباب أمنية تتعلق بطبيعة الإرهاب الذي كانت تمارسه الدولة بمؤسساتها الحزبية والأمنية المبثوثة في كل مكان ولم يسلم منها القسم العلمي داخل الجامعة بل وحتى قاعة الدرس، ولو لا ثبات بعض الأفذاذ من علماء العراق الأكاديميين والأساتذة المبدعين لسحقت الجامعات حقا وقلنا على تعليمنا العالي السلام.
على أية حال أقول : ذلك الزمن البغيض ولى ، وذهبت أيامه بلا رجعة إن شاء الله ،,اقبل علينا زمن آخر مختلف تماما عما شهدناه سابقا ينبغي فيه أن يأخذ التدريسي الأكاديمي دوره فيه وأن يتحلى بكامل المسؤولية على المستويين العلمي والعملي ، فهذا عصر العلم ووضع الخطط الإستراتيجية وصناعة الرؤية المستقبلية لمؤسسات التعليم العالي التي ينبغي لها أن تركز على تلبية حاجات المجتمع المتنوعة وحاجات السوق من الكوادر العلمية في التخصصات التطبيقية والعملية وتوظيف البحث العلمي لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية والبيئية والمعرفية وغيرها الكثير مما يعانيه بلدنا اليوم.ولا ريب في أن الفرصة اليوم سانحة ومتاحة لإقامة هذه المشاريع المستقبلية ذلك لأن التدريسي العراقي أخذ يستعيد موقعه الحقيقي في بناء البلد ، فالواقع يوما بعد يوم يثبت هذه الحقيقة .
وتلك قناعتي التي رأيتها شاخصة لطبيعة الحضور الأكاديمي للأساتذة العراقيين ومستوى ثقلهم النوعي والعلمي في المؤتمرات العالمية في خارج العراق في أكثر من مكان لاسيما حضورنا الملتقى العربي الأول (مخرجات التعليم العالي وسوق العمل في الدول العربية) في دولة البحرين وقد رأينا رأي العين كيف هم الأساتذة العراقيون نجوما لامعة في المحافل الدولية وكيف يتحملون مسؤولياتهم العلمية والأكاديمية بصورة فريدة ميزتهم عن أقرانهم العرب عمقا في الطرح وجرأة في الحديث لافتين النظر إلى قوة العراق الجديد وشكله المشرق غير هيابين إلا من الخطأ والزلل.
وفي هذا الصدد علينا جميعا أن نستغل هذه الإشراقة الجديدة والجميلة في أمتنا العراقية بالإسراع اليوم وقبل غد بالعمل الدؤوب لنجني فيما بعد ثمار ما غرسنا منه والتأسيس له تأسيسا إستراتيجيا بعيد المدى، فقطاع التعليم العالي أخرت خطواته القرارات التي تأتي في إطار رد الفعل،وتخلف الإدارة التي شاعت في مرحلة الدكتاتورية تلك الإدارة القائمة في جوهرها على العشوائية والمرحلية والمجاملات والخوف على المنصب.
وفي سياق الإشارة إلى العمل الجاد لابد من التنويه بضرورة الاهتمام البالغ بمشروع تكريم الباحثين المتميزين والكليات الرائدة وصولا إلى تكريم الجامعة الداخلة ضمن التصنيفات العالمية ذات الأفضل 500 جامعة وبجوائز مالية كبيرة…ذلك المشروع الرائد الذي نؤسس له اليوم وبالتنسيق مع وزارتنا والنخبة المتقدمة فيها كونه واحدا من المشاريع الاستراتيجية البعيدة المدى ذات الأثر الكبير في تطوير قطاعنا التعليمي ..ولن نكون مبالغين اذا قلنا إنه فاتحة خير لمشاريع تحفيز وترغيب كبرى سيكون من شانها رفع مستوى جودة التعليم العالي في العراق، ودفع تدريسيي الجامعات العراقية الى بذل جهد نوعي لبلوغ مراتب التفوق والتميز العالمي، ولعل أولى البوادر في ذلك كله تبني وزارة التعليم العالي برامج الجودة والتقييم وإلزام منتسبيها بالضوابط والقوانين والإعلان عن برامج تربوية علمية ومؤتمرات في جميع جامعاتنا لتشكل فرصة رائعة من فرص التنافس مستذكرين رموز التاريخ الحديث والقديم ممن أناروا سبل الأمل في الحياة العصرية المعقدة السريعة التطور .