المناهج التقليديه والواقع الصحي
” أ. د. عبد الرزاق عبد الجليل العيسى “
قد يظن البعض ان ما اكتبه هو ضمن واقع التنظير الكثير على الساحة العراقية لكن تجربتي العملية في جامعة الكوفة ونتائجها تتيح لي امكانية رسم الخطوات العملية على صعيد التطبيق التي كانت اولها اعادة النظر بالمناهج الدراسية وطرائق تدريسها . لقد تم انشاء شبكة شبه متكاملة ومتاحة الفرص للقيادات الجامعية والتدريسيين والاداريين لاكتساب المهارات المهنية التخصصية العلمية والثقافية وضمن الصلاحيات الممنوحة لنا وكانت البداية في التغيير هي المناهج وطرائق التدريس في كلية الطب التي قد يظن البعض انه شأن خاص باساتذتها وطلابها ومخرجاتها وهي لا تهم احداً سواهم, لكن الحقيقة التي يجب ان يدركها الجميع, هي أنها خاضعة لمنظومة الواقع الصحي وحياة الانسان وانعكاساته على المجتمع العراقي . فالذين يدخلون كليات المجموعة الطبية ومن ضمنها كلية الطب هم المتفوقيين وزبدة الطلبة من خريجي الاعداديات , ما عدا الاستثناءات التي نأمل أن تتوقف , وهم مستقبل خدمتنا الصحية وعمادها الذي يمس صحة المواطن بشكل خاص والتنمية البشرية بشكل عام .
لقد كان الاهتمام الاول من قبل الهيئة الكبرى المسؤولة عن صحة العالم ألا وهي منظمة الصحة العالمية قبل ثلاثين عاماً بالمناهج الطبية إذ اوصت كليات الطب وكان عددها عالمياً حينذاك يبلغ الف وثلاثمائة كلية ان تبدأ بإعادة النظر في مناهجها التقليدية, التعليم الطبي المعتمد على المادةSubject–Based Medical Education, ومن ثم تغييرها لكي تتلائم مع البيئة التي تحيط بتلك الكلية ومع حاجات المجتمع وتركز على المشاكل الصحية الحقيقية لغالبية المواطنيين من مختلف المجتمعات. ففي عام 1991 عقدت المنظمة وبالتعاون مع جامعة واشنطن / سياتل الامريكية مؤتمرا عالميا لاقرار الاطار العام لخطة ( العمل من اجل التغيير ) , وفي عام 1993 انعقد مؤتمر شيربروك في كيباك الكندية تحت شعار ( العمل بما يخدم المجتمع والرعاية الصحية ) .
ومن التوصيات التي صدرت من تلك المؤتمرات حفزت الادارات في كليات الطب العالمية بالتسابق في تغيير مناهجها التقليدية لتتخذ من المناهج التكاملية والتعلم بحل مشكلة صحية او بما يسمى بالتعلم بدراسة الحالات المرضية والتركيز في الدراسات الاولية على مقررات طب المجتمع والرعاية الصحية الاولية والاوبئة المتوطنة ولكن البعض من كليات الطب في الجامعات الامريكية والبريطانية والكندية ابقى التدريس ضمن المناهج التقليدية وفتح المسار الدراسي الحديث وضمن المناهج التكاملية امام الطلبة ومنحهم الحرية للاختيار لتكن النتيجة بعد سنوات قليلة باختيار الطلبة بشكل شبه كامل للمسار ضمن المناهج التكاملية والمنظومة التابعة لها والتي يمكن وضعها في ثلاثة انظمة وهي :-
1. التعليم الطبي الموحد Integrated Medical Education .
2. التعليم الطبي المعتمد على الكفاءة .Competence Based Medical Education
3. المنهج المعتمد على الطالب او التعلم الفاعل وليس السطحي Student-centered curriculum
أن القرارات التي اتخذت لتغير المناهج الدراسية وطرق التدريس عالمياً واسبابها, كما اشار لها أ.د نزار الحسني في احد محاضراته, لتساير الاتي :-
1. النمو المتسارع في المعلومات الطبية .
2. التطور في التقنيات الطبية .
3. التباين في طبيعة الامراض .
4. التغيير في طرق واساليب الرعاية الصحية .
5. التغيرات البيئية والمشاكل النفسية والاجتماعية الناتجة من الكوارث والنزاعات والحروب .
6. ضرورة تحسين طريقة معاملة الاستاذ لطلبته والطبيب لمرضاه .
شهد عام 1927 تأسيس اول كلية لدراسة الطب, كلية الطب العراقية الملكية في بغداد ومؤسسها هاري سندرسن باشا وقبل في الدفعة الاولى اثنا عشر طالب, وحالياً توجد ثلاثة عشرين كلية ثلاثة منها تم إنشاؤها خلال 1960-1970 والباقي انشأت مابعد 1978 ولغاية 2007 . مما يؤسف القول أن المستوى الحالي لخريجي هذه الكليات هو في كثير من الاحيان دون مستوى الطموح ولاسباب كثيرة ويمكن الاشارة لبعضها وهو المناهج الدراسية والتدريبية وطرق التدريس في معظم الكليات والذي لايزال تقليدياً ومن دون تطور ومنذ اكثر من ثلاثين عاماً اعتماداً على اسلوب التلقين والاملاء والمحاضرات المستنسخة وطريقة التدريس تعتمد اعتماداً كلياً على التدريسي ومهاراته وعدم اعطاء الطالب دوراً تفاعلياً تتيح له فرصة التفكير المستقل والابداع والابتكار والبحث العلمي والتعليم الذاتي واعتبار الامتحانات هدف للدراسة وليس اداة لقياس وتطوير مستوى الطالب علاوة على اسباب مهنية وفنية اخرى .
تلك الاشارات وضمن معايشتي كأحد تدريسيي كلية طب الكوفة لـ 26 سنة وخلال ادارتي للجامعة 2006-2011 وضعت ضمن اولوياتي اعادة النظر بالمناهج الدراسية وطرائق التدريس وكتبت للوزارة بضرورة اعادة النظر بالمناهج الدراسية عموماً ومناهج كليات الطب خصوصاً كونها ترتبط بصحة المواطن العراقي للتغلب على التراجع الذي حصل لها خلال حقبة الحروب وبما يسمى بالحصار الاقتصادي 1980- 2003. لقد انيطت صلاحية تغيير المناهج الدراسية الجامعية بموافقة لجان من عمداء الكليات ذات التخصص الواحد . وكان اقتراحنا وقتها ان ترتبط الاقسام العلمية المتشابهة او الكليات ومن نفس التخصص في الجامعات العراقية بأحد الاقسام او الكليات المناظرة لها في احدى الجامعات المتقدمة خارج العراق وبمبدأ التوأمة وتشكل لجان تنسيقية من المؤسستين لرسم خطط تغيير أو تعديل البرامج الدراسية ولكن ما يؤسف له أن ردود الافعال في بعض كليات الطب وتدريسييها هو مقاومة التغيير وعدم الموافقة .
في عام 2008 كانت خطواتنا الاولى في بداية المشروع بتعديل المناهج في كلية الطب وبإيمان السيد عميد كلية الطب بضرورة اعادة النظر بفلسفة واهداف ورسالة الكلية ومناهج سنواتها جميعاً لتتلائم مع توجيهات منظمة الصحة العالمية لانها تهم صحة مجتمعنا بأسره وليست شأناً اكاديمياً كما يزعم البعض من غير المتطلعين والدارسين للبرامج الحديثة وبعضهم حتى لو قرأوا فهم لايأبهون بمستقبل بلدهم ومواطنيهم وممن لم يدرسوا السلوك المهني أو الطبي وماهي المسؤولية المناطة بهم وطبيعة واجباتهم ضمن الضوابط والقوانين المعمول فيها في جميع بقاع العالم بالاضافة للتعاليم السماوية . لقد تم الاستعانة بأحد كوادر كليات الطب الاسترالية والعراقي الاصل ومن خلال استضافته في كلية الطب ولمدة ثلاث اشهر ليقود اولى خطوات تعديل المناهج ضمن عدد محدود من الطلبة تم اقناعهم بتجربة اولية ليلتحق بهم آخرون من الطلبة وبرغبتهم وارادتهم للدراسة ضمن المناهج الحديثة وبالنظام التكاملي الموحد والاعتماد على الكفاءة وتجربة التعلم عن طريق حل المشكلة وبعدها اجريت عملية استفتاء للطلبة في نفس العام لتظهر النتائج الايجابية والرغبة بضرورة التغيير .
لقد اغتنمنا فرصة الاتفاقية بين وزارة التعليم العالي والقنصلية البريطانية لتأهيل الاقسام العلمية في الجامعات العراقية والطلب بتخصيص الملبغ المناسب للشروع بعملية تحديث المناهج والبرامج الدراسية الطبية وتأهيل كوادر كلية الطب ضمن البرامج الدراسية الحديثة والمتبعة في جامعة لستر البريطانية وبالتنسيق مع احد كوادرها من العراقيين , الاستاذ الدكتور محمد الازري , ليعمل كمنسق ومتابع لعملية التغيير وبالاستعانة بالمؤتمرات الفديوية والمنظومة الفديوية المتوفرة في جامعة الكوفة تم تأهيل اكثر من مائة تدريسي واصبح الايمان الكامل للمخلصين من اساتذة الكلية بضرورة التغيير بالاضافة الى الاستجابة وردود الافعال الايجابية من الطلبة وبشكل كبير . لقد مضى حوالي العقدان على توجيهات منظمة الصحة العالمية لكليات الطب بضرورة تغيير مناهجها واكثر من اربعة اعوام على تهيئة مستلزمات التغيير واهتمام جامعة الكوفة بتحقيق هذا التغيير والذي بدأ فعلاً ولكن ضمن محددات لحين موافقة الوزارة بالاضافة الى ماتبقى هو وضع الستراتيجيات والتنسيق مابين وزارتي التعليم العالي ووزارة الصحة , كليات الطب ومديريات الصحة , بعد الايمان بضرورة التغيير , للصلة الوثيقة مابين المناهج والتدريس والاستعانة بالمراكز الصحية في القرى والاحياء السكنية لتدريب الطلبة في قلب المجتمع وليس الاكتفاء حصراً بالمستشفيات التعليمية او الجامعية كذلك يحتاج العمل للتوأمة بين كليات الطب العراقية مع نظيراتها في جامعات متقدمة وكما حصل لكلية طب الكوفة بالاضافة للتنسيق بين تلك الكليات والتعاون بالعمل الجاد للوصول الى البرامج المثالية ولمستقبل خدمات صحية مثالية تخدم الجميع بما فيهم العاملون عليها .
لقـد كانت الفرصة المناسبة حين استلمنا ادارة الدائرة الثقافية في لندن ( تشرين الاول 2011 لغاية مايس 2012 ) حيث عُقدت مجموعة من اللقاءات مع كثير من الاطباء الموجودين في الساحة البريطانية ومن المتفانين الراغبين والملهوفين لخدمة العراق والعراقيين لذا طرح موضوع الآليات والاساليب والطرق المناسبة للنهوض بالواقع الصحي العراقي في خمس مؤتمرات وندوات اقامتها الدائرة الثقافية في لندن وبحضور جمع من الاكاديمين العراقيين ومن الاطباء الموجودين في الساحة البريطانية واحد المؤتمرات كان برعاية معالي وزير التعليم العالي وآخر برعاية رئيس لجنة الصحة في البرلمان العراقي وكانت اولى التوصيات في جميع تلك اللقاءات هي ضرورة البدء بتحديث المناهج والتدريسات في كليات الطب والالتزام بالسلوك المهني الطبي والتركيز في التدريب في الدراسات الاولية والضوابط والقوانين والتعاليم السماوية التي توصي بأحترام النفس البشرية والتفاني لسلامة وصحة الانسان حيث ابدى معظمهم استعداده للتعاون والمساعدة في كافة السبل لانقاذ الواقع الصحي العراقي بدءاً من المناهج والتدريسات والتدريب للطلبة والكادر الصحي والكشف والتشخيص واجراء العمليات للحالات المرضية في جميع مناطق العراق وكما حصل فعلاً خلال مشاركة ثلاثة عشر منهم ككادر طبي اكاديمي متقدم لحضور المؤتمر الذي اقيم في كلية الطب جامعة الكوفة في شباط 2012 منطلقين من مبدأ انساني اولاً ووفاء للتربية الاصيلة والتعليم الاولي الجامعي الذي حصلوا عليه في العراق الحبيب .
وختامـاً يمكن القول أن جميع الظروف والمستلزمات متوفرة للشروع بتحديث مناهج كليات الطب وللحصول على خدمات صحية متقدمة ولخطوات وخطط اخرى وسريعة لتغيير جميع مناهج وتدريسات باقي التخصصات في الجامعات العراقية وبالاعتماد على المراكز العالمية التخصصية , والخطط المتبعة في الاقسام العلمية ذات التصنيف المتقدم عالميـاً .